فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (90):

قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان سبحانه وتعالى قد أمر فيهم على تقدير توليهم بما أمر، استثنى منه فقال: {إلا الذين يصلون} فرارًا منكم، وهم من الكفار عند الجمهور {إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق} أي عهد وثيق بأن لا تقاتلوهم ولا تقاتلوا من لجأ إليهم أو دخل فيما دخلوا فيه فكفوا حينئذ عن أخذهم وقتلهم {أو} الذين {جاءوكم} حال كونهم {حصرت} أي ضاقت وهابت وأحجمت {صدورهم أن} أي عن أن {يقاتلوكم} أي لأجل دينهم وقومهم {أو يقاتلوا قومهم} أي لأجلكم فرارًا أن يكفوا عن قتالكم وقتال قومهم فلا تأخذوهم ولا تقاتلوهم، لأنهم كالمسالمين بترك القتال، ولعله عبر بالماضي في جاء إشارة إلى أن شرط مساواتهم للواصلين إلى المعاهدين عدم التكرر، فإن تكرر ذلك منهم فهم الآخرون الآتي حكمهم.
ولما كان التقدير: فلو شاء الله لجعلهم مع قومهم إلبًا واحدًا عليكم، عطف عليه قوله: {ولو} أي يكون المعنى: والحال أنه لو {شاء الله} أي وهو المتصف بكل كمال {لسلطهم} أي هؤلاء الواصلين والجائين على تلك الحال من الكفار {عليكم} ينوع من أنواع التسليط، تسليطًا جاريًا على الأسباب ومقتضى العوائد، لأن بهم قوة على قتالكم {فلقاتلوكم} أي فتسبب عن هذا التسليط أنهم قاتولكم منفردين أو مع غيرهم من أعدائكم، واللام فيه جواب «لو» على التكرير، أو البدل من سلط.
ولما كان المغيّي على النهي عن قتالهم حينئذ، صرح به في قوله: {فإن اعتزلوكم} أي هؤلاء الذين أمرتكم بالكف عنهم من المنافقين، فكفوا عنكم {فلم يقاتلوكم} منفردين ولا مجتمعين مع غيرهم {وألقوا إليكم السلم} أي الانقياد {فما جعل الله} أي الذي لا أمر لأحد معه بجهة من الجهات {لكم عليهم سبيلًا} أي إلى شيء من أخذهم ولا قتلهم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

في قوله: {يَصِلُونَ} قولان:
الأول: ينتهون إليهم ويتصلون بهم، والمعنى أن كل من دخل في عهد من كان داخلا في عهدكم فهم أيضا داخلون في عهدكم.
قال القفال رحمه الله: وقد يدخل في الآية أن يقصد قوم حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم فيتعذر عليهم ذلك المطلوب فيلجأوا إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد إلى أن يجدوا السبيل إليه.
القول الثاني: أن قوله: {يَصِلُونَ} معناه ينتسبون، وهذا ضعيف لأن أهل مكة أكثرهم كانوا متصلين بالرسول من جهة النسب مع أنه صلى الله عليه وسلم كان قد أباح دم الكفار منهم. اهـ.

.قال القرطبي:

{إِلاَّ الذين يَصِلُونَ} أي يتَّصلون بهم ويدخلون فيما بينهم من الجوار والحلف؛ المعنى: فلا تقتلوا قومًا بينهم وبين مَن بينكم وبينهم عهدٌ فإنهم على عهدهم ثم انتسخت العهود فانتسخ هذا.
هذا قول مجاهد وابن زيد وغيرهم، وهو أصح ما قيل في معنى الآية.
قال أبو عبيد: يَصِلون ينتسبون؛ ومنه قول الأعشى:
إذا اتصلت قالتْ لبكرِ بن وائلٍ ** وَبَكْرٌ سَبَتْها والأنوف رواغِمُ

يريد إذا انتسبت.
قال المهدوِيّ: وأنكره العلماء؛ لأن النسب لا يمنع من قتال الكفار وقتلهم.
وقال النحاس: وهذا غلط عظيم؛ لأنه يذهب إلى أن الله تعالى حظر أن يُقاتل أحد بينه وبين المسلمين نسب، والمشركون قد كان بينهم وبين السابقين الأوّلين أنساب، وأشد من هذا الجهلُ بأنه كان ثم نُسخ؛ لأن أهل التأويل مجمعون على أن الناسخ له «بَرَاءَةٌ» وإنما نزلت «براءة» بعد الفتح وبعد أن انقطعت الحروب.
وقال معناه الطبريّ.
قلت: حمل بعض العلماء معنى ينتسبون على الأمان؛ أي إن المنتسب إلى أهل الأمان آمِنٌ إذا أمن الكل منهم، لا على معنى النسب الذي هو بمعنى القرابة.
واختُلف في هؤلاء الذين كان بينهم وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم ميثاق؛ فقيل: بنو مُدْلجٍ.
عن الحسن: كان بينهم وبين قريش عقد، وكان بين قريش وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد.
وقال عِكرمة: نزلت في هلال بن عُويمر وسُراقة بن جُعْشُم وخُزيمة بن عامر بن عبد مناف كان بينهم وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم عهد.
وقيل: خزاعة.
وقال الضحاك عن ابن عباس: أنه أراد بالقوم الذين بينكم وبينهم ميثاق بني بكر بن زيد بن مَناة، كانوا في الصلح والهدنة. اهـ.

.قال الفخر:

اختلفوا في أن القوم الذين كان بينهم وبين المسلمين عهد من هم؟ قال بعضهم هم الأسلميون فإنه كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فإنه عليه الصلاة والسلام وادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعصيه ولا يعين عليه، وعلى أن كل من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله من الجوار مثل ما لهلال.
وقال ابن عباس: هم بنو بكر ابن زيد مناة، وقال مقاتل: هم خزاعة وخزيمة بن عبد مناة.
واعلم أن ذلك يتضمن بشارة عظيمة لأهل الإيمان، لأنه تعالى لما رفع السيف عمن التجأ إلى من التجأ إلى المسلمين، فبأن يرفع العذاب في الآخرة عمن التجأ إلى محبة الله ومحبة رسوله كان أولى والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

في هذه الآية دليل على إثبات الموادعة بين أهل الحرب وأهل الإسلام إذا كان في الموادعة مَصْلحة للمسلمين، على ما يأتي بيانه في «الأنفال وبراءة» إن شاء الله تعالى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

الاستثناء من الأمر في قوله: {فخذوهم واقتلوهم} أي: إلاّ الذين آمنوا ولم هاجروا.
أو إلاّ الذين ارتدّوا على أدبارهم إلى مكة بعد أن يهاجروا، وهؤلاء يصلون إلى قوم ممّن عاهدوكم، فلا تتعرّضوا لهم بالقتل، لئلاّ تنقضوا عهودكم المنعقدة مع قومهم.
ومعنى {يَصلُونَ} ينتسبون، مثل معنى اتَّصل في قول أحد بني نبهان:
ألاَ بَلْغَا خُلَّني رَاشِدًا ** وصِنْوِي قديمًا إذَا ما اتَّصل

أي انتسب، ويحتمل أن يكون بمعنى التحق، أي إلاّ الذين يلتحقون بقوم بينكم وبينهم ميثاق، فيدخلون في عهدهم، فعلى الاحتْمال الأول هم من المعاهدين أصالة وعلى الاحتمال الثاني هم كالمعاهدين لأنّ معاهَد المعاهَد كالمعاهَد.
والمراد بـ {الذين يصلون} قوم غير معيّنين، بل كلّ من اتّصل بقوم لهم عهد مع المسلمين، ولذلك قال مجاهد: هؤلاء من القوم الذين نزل فيهم {فما لكم في المنافقين فئتين} [النساء: 88].
وأمّا قوله: {إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق} فالمراد به القبائل التي كان لهم عهد مع المسلمين.
قال مجاهد: لمّا نزلت: {فما لكم في المنافقين فئتين} الآية خاف أولئك الذين نزلت فيهم، فذهبوا ببضائعهم إلى هلال بن عويمر الأسلمي، وكان قد حَالف النبي صلى الله عليه وسلم على: أن لا يعينه ولا يعين عليه، وأنّ من لَجَأ إلى هلال من قومه وغيرهم فله من الجوار مثل ما له.
وقيل: أريد بالقوم الذين بينكم وبينهم ميثاق خزاعة، وقيل: بنو بكر بن زيد مناءةَ كانوا في صلح وهدنة مع المسلمين، ولم يكونوا آمنوا يومئذٍ وقيل: هم بنو مُدْلِج إذ كان سراقة بن مالك المدلِجي قد عقد عهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه بني مدلج بعد يوم بدر، على أن لا يعينوا على رسول الله، وأنّهم إن أسلمتُ قريش أسلموا وإن لم تُسلم قريش فهم لا يسلمون، لئلاّ تخشن قلوب قريش عليهم.
والأولى أنّ جميع هذه القبائل مشمول للآية. اهـ.

.قال الطبري:

وقد زعم بعض أهل العربية، أن معنى قوله: {إلا الذين يصلون إلى قوم}، إلا الذين يتَّصلون في أنسابهم لقوم بينكم وبينهم ميثاق، من قولهم: «اتّصل الرجل»، بمعنى: انتمى وانتسب، كما قال الأعشى في صفة امرأة انتسبت إلى قوم:
إذَا اتَّصَلَتْ قَالَتْ: أَبَكْرَ بنَ وَائِلٍ! ** وَبَكْرٌ سَبَتْهَا وَالأنُوفُ رَوَاغِمُ!

يعني بقوله: «اتصلت»، انتسبت.
ولا وجه لهذا التأويل في هذا الموضع، لأن الانتساب إلى قوم من أهل الموادعة أو العهد، لو كان يوجب للمنتسبين إليهم ما لهم، إذا لم يكن لهم من العهد والأمان ما لهم، لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لِيقاتل قريشًا وهم أنسباءُ السابقين الأوَّلين. ولأهل الإيمان من الحق بإيمانهم، أكثر مما لأهل العهد بعهدهم. وفي قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي قريش بتركها الدخول فيما دخل فيه أهل الإيمان منهم، مع قرب أنسابهم من أنساب المؤمنين منهم- الدليلُ الواضح أنّ انتساب من لا عهد له إلى ذي العهد منهم، لم يكن موجبا له من العهد ما لذي العهد من انتسابه.
فإن ظن ذو غفلة أن قتال النبيّ صلى الله عليه وسلم من قاتل من أنسباء المؤمنين من مشركي قريش، إنما كان بعد ما نُسخ قوله: {إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق}، فإن أهل التأويل أجمعوا على أن ناسخ ذلك «براءة»، و«براءة» نزلت بعد فتح مكة ودخول قريش في الإسلام. اهـ.

.قال الفخر:

قوله تعالى: {أَوْ} يحتمل أن يكون عطفا على صلة {الذين} والتقدير: إلا الذين يصلون بالمعاهدين أو الذين حصرت صدورهم فلا يقاتلونكم، ويحتمل أن يكون عطفا على صفة {قوم} والتقدير: إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم عهد، أو يصلون إلى قوم حصرت صدورهم فلا يقاتلونكم، والاول أولى لوجهين:
أحدهما: قوله تعالى: {فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [النساء: 89] وهذا يدل على أن السبب الموجب لترك التعرض لهم هو تركهم للقتال، وهذا إنما يتمشى على الاحتمال الأول، وأما على الاحتمال الثاني فالسبب الموجب لترك التعرض لهم هو الاتصال بمن ترك القتال.
الثاني: أن جعل ترك القتال موجبا لترك التعرض أولى من جعل الاتصال بمن ترك القتال سببا قريبا لترك التعرض، لأن على التقدير الأول يكون ترك القتال سببا قريبا لترك التعرض، وعلى السبب الثاني يصير سببا بعيدا. اهـ.
قال الفخر:
قوله: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} معناه ضاقت صدورهم عن المقاتلة فلا يريدون قتالكم لأنكم مسلمون، ولا يريدون قتالهم لأنهم أقاربهم.
واختلفوا في موضع قوله: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} وذكروا وجوها:
الأول: أنه في موضع الحال باضمار «قد» وذلك لأن «قد» تقرب الماضي من الحال، ألا تراهم يقولون: قد قامت الصلاة، ويقال أتاني فلان ذهب عقله، أي أتاني فلان قد ذهب عقله: وتقدير الآية، أو جاؤكم حال ما قد حصرت صدورهم.
الثاني: أنه خبر بعد خبر، كأنه قال: أو جاؤكم ثم أخبر بعده فقال: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} وعلى هذا التقدير يكون قوله: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} بدلا من {جاؤكم} الثالث: أن يكون التقدير: جاؤكم قوما حصرت صدورهم أو جاؤكم رجالا حصرت صدورهم، فعلى هذا التقدير قوله: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} نصب لأنه صفة لموصوف منصوب على الحال، إلا أنه حذف الموصوف المنتصب على الحال.
وأقيمت صفته مقامه، وقوله: {أن يقاتلوكم أَوْ يقاتلوا قَوْمَهُمْ} معناه ضاقت قلوبهم عن قتالكم وعن قتال قومهم فهم لا عليكم ولا لكم. اهـ.